التحديات النفسية للعمل عن بُعد

في السنوات الأخيرة ، شهد مجال العمل تحولًا كبيرًا مع ظهور العمل عن بُعد، وتم اعتماده من قِبل الكثير من المنظمات، أصبح العمل عن بعد شائعًا لدى الكثير من الموظفين حول العالم، وقد ثبت أن العمل عن بُعد له ايجابيات عديدة، مثل زيادة الإنتاجية والإبداع والمرونة وزيادة الرضا الوظيفي (Battisti et al. 2022)، فإنه يقدم أيضًا مجموعة من التأثيرات النفسية التي تستحق النظر.

 ويعد غياب الحدود أمرًا واضحًا في طبيعة العمل عن بُعد، ما يخلق اختلالًا في التوازن بين الحياة المهنيّة والشخصية لدى الموظف، وينشأ عن ذلك عدم القدرة عن التوقف عن العمل، العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة. (Soga et al., 2022) في هذه المقالة نسلط الضوء على هذه العوائق التي تحول دون رعاية نفسيّة سليمة للموظفين ونقدم بها توصيات لمسؤولي العمل للتغلب عليها.

 

أن تكون متاحًا باستمرار بسبب طبيعة العمل عن بُعد يعد تحديًا كبيرًا للصحة النفسية، حيث أظهرت الدراسات أن أبسط التفاصيل (كالصوت مثلًا عند تلقي إشعار متعلق بالعمل)، كفيل بأن يعطي اشارة للدماغ أن ذهنيّة العمل قد تفعّلت (Uther et al.2020)، مما يؤدي إلى تعطيل التوازن للأفراد بين عملهم وحياتهم الشخصية. إلى جانب الضغط المجتمعي الذي يتوقع تواجدك متاحًا دائمًا، فإن هذا يمثل نموذجًا خطيرًا لخلق التوتر والإرهاق إذا لم تتم إدارة الوضع بشكل صحي.

 

وقد صُنّفت "العزلة الاجتماعية" و "الشعور بالوحدة" على أنها تحديات رئيسية يواجهها الموظفون الذين يعملون عن بعد، ففي استطلاع عبر الإنترنت شمل 11383 موظفًا في 24 دولة، قال 62٪ من المشاركين أنهم وجدوا العمل عن بعد يُشعرهم أنهم معزولون اجتماعيًا، وعبّروا عن قلقهم 50٪ من المشاركين وقالوا أن العمل عن بُعد قد يضر بفرصهم في الحصول على ترقيات في العمل (Reaney  2012).

 تعد المحادثات غير الرسمية "العفوية" التي تتاح للزملاء ومسؤوليهم على حد سواء، كفرصة للانخراط معًا أثناء تواجدهم في المكتب، وهذا مهم في تقوية العلاقات في مكان العمل.

من بين جميع طرق الاتصال المتاحة للموظفين (كالهاتف والبريد الإلكتروني والمراسلة الفورية وغيرها..) أفاد الموظفون أن التفاعل وجهًا لوجه هو الأكثر أهمية للحفاظ على الصداقات في مكان العمل (Sia و Pedersen و Gallagher و Kopaneva، 2014). كما قيل أيضًا أن العمل عن بعد يُفقد الموظفين الحافز لتطوير أنفسهم بسبب غياب المقارنات الاجتماعية التي ما تحصل عادة على أرض الواقع. (Mann et al. ،2000). ويمكن لهذا أن يشكل تحديًا خاصة مع الموظفين الجدد الذين يعملون عن بعد، فهم يفتقرون إلى أي نموذج من الشركة أمامهم يقيسون به أنفسهم.

 

بالنظر إلى العمل عن بعد وسلبياته، كيف يمكن التخفيف من المخاطر المحتملة؟  

من الناحية الإدارية: يتطلب تنفيذ نموذج واضح وفعّال من قِبل الادارة لموظفيها للعمل عن بعد.

من ناحية الأفراد:  يجب تقديم إرشادات محددة حول متى تبدأ التزامات العامل عن بُعد ومتى تنتهي،

ومن المهم أن يكمل الموظفين ذلك على المستوى الفردي من خلال وضع حدود واضحة فيما يتعلق بجدولهم الزمني وتوقعاتهم ومساحة العمل المادية لديهم، حيث وجدت دراسة من جامعة ستانفورد أن 51٪ من الموظفين الأمريكيين الذين كانوا يعملون عن بعد، كانوا يعملون إما من غرفة نومهم أو من منطقة مشتركة للعائلة في منزلهم (لوفكين 2022). وهذا بلا شك لا يوفر البيئة المريحة والكافية، لذا على الأفراد اتخاذ خطوات جدّية واضحة لتحديد حدودهم بشكل أكبر أثناء العمل عن بُعد.

 

ربما يكون أثر العمل عن بعد أمر صعب على الموظفين من الناحية الاجتماعية، لكن من الناحية العمليّة، تستفيد الشركات من المنصات الافتراضية، حيث يمكن لموظفيها الاتصال ومشاركة الأفكار مع الآخرين. ودعونا لا ننسى أن المشاكل التقنية التي يواجهها الموظفون أكثر مقارنة بالعمل في الشركة، إضافة للعبء الذي يقع على عاتق الموظفين بالتحقق المستمر للشبكة والاشعارات التي قد تصلهم من مرؤوسي العمل لضمان سريان الانتاجية بشكل فعّال.

يعد تحديد مواعيد اتصالات منتظمة بين الموظفين ومسؤولي العمل أمر بالغ الأهمية في مرحلة العمل عن بعد، وخصوصًا للموظفين الجدد، الذين يمكنهم الاستفادة بشكل كبير من دعم زملائهم وتوجيههم خلال فترة عملهم الأولى وتعريفهم بثقافة الشركة وبناء شعور الانتماء لديهم.

 

توصّلت دراسة أجرتها كلية هارفارد للأعمال إلى أن "أجهزة تبريد المياه الافتراضية" (جلسات الفيديو والمؤتمرات لمجموعات صغيرة من المتدربين والمسؤولين) ساهمت في تعزيز التزام المؤسسة لدى المتدربين المشاركين، مما يؤدي بدوره إلى تحسين الأداء الوظيفي والانتاجيّة. إن تعزيز الانتماء والروح المجتمعية التي تنتقل من القادة إلى المتدربين هو ما يمكّننا من خلق ثقافة تنظيمية إيجابية وشعور بالانتماء يحدّ من الشعور بالوحدة بين الموظفين الذين يعملون عن بُعد.



باختصار، العمل عن بعد له آثار نفسية تتعلق بانعدام وضوح في التوازن بين العمل والحياة الشخصية، مما يؤدي لإرهاق الموظفين لأنهم غير قادرين على  التوقف عن العمل، ويمكن أن يؤدي العمل عن بُعد أيضًا إلى جعل الموظفين أقل تفاعلًا في حياتهم الاجتماعية، مما يؤدي إلى ضعف في الإنتاجية، لذا فإن لمسؤولي العمل الدور المهم في جني أكبر فائدة من العمل عن بعد بأكبر انتاجية ممكنة، وفي الوقت نفسه أن يفعلوا ما بوسعهم تجاه موظفيهم تجنبًا للتأثير السلبي المحتمل على عافيتهم النفسيّة.